مقال/ موسى تيهو ساي
كيف استثمرت روسيا تآكل صورة فرنسا للتغول في إفريقيا؟
قال «نيلسون مانديلا» عند ما خرج من السجن في أواخر تسعينات القرن الماضي: لا يمكننا أن نستغني عن روسيا ودعمها لحركة النضال والتحرر الوطني بجنوب إفريقيا ضد الفصل العنصري المدعوم غربيا، وذلك تعبيرا عن الشكر للدور الروسي في دعم حركات التحرر الإفريقية التي كان الاتحاد السوفياتي قد دعمها سابقا ضمن نضال الأفارقة للاستقلال عن المستعمر الفرنسي منتصف القرن العشرين ومنها جمهورية إفريقيا الوسطى التي بدأت بها روسيا دخولها الخشن للقارة مؤخرا..
إلاّ أن الوجود الروسي تراجع إلى حد كبير عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، واكتفت روسيا فقط بتصدير السلاح للأفارقة وحافظت على كونها المصدرالأول للسلاح إلى إفريقيا؛ متجاوزة أي دولة أخرى بسبب عدم وجود شروط معقدة لشراء السلاح كمسألة حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية والتعددية السياسية..
انتهاء السبات الشتوي ووصول بوتين للسلطة
بعد سنوات قليلة من وصول الرئيس الروسي الحالي «فلادمير بوتين» للحكم في روسيا عادت طموحات الإمبراطورية التوسعية ويممت روسيا وجهها إلى إفريقيا من جديد لإحياء العلاقات القديمة وجني ثمار دعمها للحركات التحررية سابقا، حاملة معها شعار التخلص من لعنة الاستعمار مرة أخرى ومحاربة الإرهاب «شعار الغرب المستهلك حتى النهاية».
إستراتيجية روسيا لتعزيز وجودها في إفريقيا
حرصت روسيا على استخدام القوة الناعمة كواجهة لترسيخ نفوذها في القارة السمراء ومنها شطب نصف ديون روسيا في القارة بنحو 50 مليار دولار وهي ديون بعضها يعود إلى زمن الاتحاد السوفياتي وكانت قمة «سوتشي” الإفريقية الروسية 2019 علامة فارقة في إعادة ترتيب العلاقة مع الأفارقة في مجالات عدة أهمها الطاقة والزراعة والتكنولوجيا وأخرى ثقافية وفي مجالات دبلوماسية وأكاديمية، وتم توقيع اتفاقيات بنحو 20 مليار دولار.
ومن أبرز هذه الاتفاقيات التي يبدو أن موسكو مهتمة بها أكثر من الأفارقة أنفسهم ملف الطاقة؛ حيث يلعب عملاق الغاز الروسي «غاز بروم» «Gazprom” دورا مهما في مجال النفط والغاز بإفريقيا بما في ذلك نيجيريا وأنغولا إلى جانب روساتوم «rosatom” شركة الطاقة النووية الحكومية التي تعمل على بناء مفاعلات نووية في مصر وإثيوبيا ودول أخرى إذا استكملت الشروط الأمنية والسياسية اللازمة للعمل فيها.
لكن الكثير من الاتفاقيات التي وقّعت مع إفريقيا في السنوات الأخيرة لم يجد أغلبها طريقه للتنفيذ لأسباب مجهولة باستثناء بعض المراكز الثقافية والسفارات وبعثات أمنية للمساعدة على فرض الأمن وتهيئة المناخ للشركات الروسية للعمل في القارة.
القوة الخشنة..
كعادته لجأ «بوتين» إلى القوة الخشنة في حربه الباردة مع الغرب في إفريقيا واستخدم أداته الفعالة في مناطق النزاعات «فاغنر” في عدة دول مهمة وشكل ذلك تحولا جيوإستراتجي في منطقة الساحل وليبيا مستفيدا من الهشاشة الأمنية والنزاعات السياسية التي تمتد في كل أطراف القارة تقريبا.
البداية من الساحل وليبيا
تُعدُّ دول مجموعة الساحل الإفريقي الخمس «النيجر وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد» نقطة تصادم مباشرة مع القوى الغربية خصوصا فرنسا التي تعتبر هذه المنطقة فضاء خاصا بها منذ نحو 60 عاما؛ لكنها بدأت تفقد حاضنتها الرسمية بعد تغيير العديد من الأنظمة السياسية الموالية لها على غرار إفريقيا الوسطى التي وضعت روسيا فيها أول قدم لها في 2016 عندما أرسلت مدربين عسكريين لتقديم المساعدة للرئيس «فوستين أرشانج” في أعقاب الحرب الأهلية ورفض نتائج الانتخابات.
وهو ما أعطى روسيا مناخا مناسبا لتسويق نفسها على أنها قوى غير استعمارية تقدم الدعم للدول دون التدخل في التفاصيل الداخلية للحكم أو تفرض نمطا معينا في مسألة الاستفادة من ثروات البلاد عكس فرنسا التي تقدم رؤيتها على أنها واجبة التنفيذ مقابل دعم النظام السياسي.
بعد أشهر قليلة من مجيء المدربين الروس «لبانغي» عاصمة البلاد أرسلت موسكو بشكل غير مباشر «فاغنر” لحماية الشخصيات الحكومية وعلى رأسها الرئيس نفسه وعدد من المؤسسات المهمة قبل أن يبني الروس قاعدة متقدمة أصبحت لاحقا من أكبر القواعد الروسية خارج روسيا بعد “حميميم” في سوريا وبها نحو 4000 ألف عنصر من شركة الفاغنر.
وفي المقابل يتراجع النفوذ الفرنسي بشكل دراماتيكي وسط تزايد السخط الشعبي عليها المدعوم بــ»بروباغاندا” إعلامية روسية حول استغلال باريس لثروات القارة وتعميق حالة الكراهية للاستعمار الفرنسي الراسخة في أذهان الشباب الإفريقي المتحمس للتغير بأي ثمن، وهو ما اضطر الإليزيه إلى الإعلان عن سحب تدريجي لوجوده في إفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل التي تتواجد فرنسا فيها منذ الاستقلال أواسط القرن العشرين ولم يتبق لها في إفريقيا الوسطى سوى بضعة عسكريين موجودين في قاعدة تضم قوات أممية لحفظ السلام»مينوسكا” .
تمدد الفاغنر نحو ليبيا ومالي.
في أواخر العام 2017 أرسلت روسيا مدربين عسكريين إلى بنغازي لمساعدة قوات حفتر على صيانة الدبابات وأسلحتها العتيقة من تركة العقيد القذافي قبل أن يتطور الأمر إلى جلب الفاغنر بإعداد كبيرة في خضم الحرب التي شنها حفتر على طرابلس في أبريل 2019.
ولأنها فرصة غير عادية للروس تعمد طباخ بوتين زعيم الفاغنر” يفيغني برويغيزين” تثبيت أقدام موسكو في واحدة من أكبر مناطق نفوذ الغرب؛ مستغلا الانكفاء غير المسبوق في الإدارة الأمريكية أثناء فترة رئاسة “ترمب” التي اتسمت بتراجع دور الولايات المتحدة دوليا وارتفاع نسبة النزاعات في إفريقيا والشرق الوسط بما في ذلك موجة ما يعرف بالثورات المضادة التي سكت عنها “ترمب” أو دعمها كما يتهمه البعض..
وما هي إلا أشهر قليلة حتى اكتشف الغرب على حين غرة أن ليبيا أصبحت منطقة نفوذ رقم 2 لروسيا بعد سوريا؛ حيث تملك الفاغنر ترسانة سلاح يفوق بكثير ما تملكه أغلب دول القارة الإفريقية من أنظمة دفاع جوي وقواعد عسكرية متقدمة في شرق ليبيا ووسطها وجنوبها الذي يعتبر منطقة جغرافية غاية في الأهمية باعتبارها يشكل حزام مهم لمنطقة الساحل يربطها بسواحل الجنوبية لأوروبا عبر الغرب الليبي..
إلى امتلاك الروس لمنظومة أمن سيبراني وسلاح جوي من طائرة ميغ 29 ، وميغ 24، وأسلحة برية ومجموعات مساعدة من عدة دول إفريقية بما في ذلك المعارضة التشادية التي دعمتها موسكو اللاطاحة بنظام إدريس ديبي رجل فرنسا المخلص في تشاد ما أدى إلى مقلته في أبريل من العام الماضي قبل تدارك فرنسا الوضع في اللحظات الحاسمة وتعيد عائلة ديبيى للحكم.
الزحف نحو العمق الافريقي.
وفي خضم التراجع الفرنسي المتزايد والانكشاف الاستراتيجي الذي لحق بفرنسا في منطقة الساحل وليبيا عقب هزيمة مشروعها العسكري في البلاد وفقدانها أي نوع من الحاضنة في هذه المنطقة وصلت روسيا إلى مالي المستعمرة الفرنسية الأكثر أهمية في دول الساحل وبشكل دراماتيكي في أعقاب الانقلابات العسكرية التي كأن آخرها في في مايو الماضي بقيادة الجنرال آسمي غويتا واستجلابه بشكل سريع فاغنر الروسية التي قدم بعضها من قواعد في ليبيا وسط ترحيب شعبي نقل العدوى كالنار في الهشيم إلى دول أخرى كغينا وأخيرا بوركينا فاسو وكلها انقلابات ذات طابع وشعار واحد وهو مناهضة المستعمر الفرنسي وان بمساعدة مستعمر آخر ليس بالضرورة أفضل من الأول.
الخاتمة.
إن التغول السريع والعصود غير المسبوق للروس وبعض القوى الدولية كالصين والإقليمية الصاعدة مثل تركيا في أفريقيا، مقابل تراجع التفوذ الفرنسي والغربي في القارة له عدة منطلقات وعوامل أبرزها عدم تقديم فرنسا أي نموذج تنموي نهضوي في مستعمراتها السابقة على مدى خمس عقود من وجدها بل والحد الأدنى من دعم تطلعات الشعوب في التعددية السياسية والديمقراطية التي تتغنى بها فرنسا ولم تتجاوز حدودها حيث دعم الاليزيه على مدى سنوات دكتاتوريات وحشية في أكثر من دولة إفريقية مقابل السيطرة الكلية على موارد تلك الدول كما أن اغلب الأنظمة السياسية الأفريقية ذات العلاقة بفرنسا إما وصلت للحكم عن طريق الانقلاب أو عبر انتخابات صورية معروفة النتائج مسبقا.
وليس من المتوقع أن تستعيد فرنسا أو يتغلب الغرب على النفوذ الروسي في القارة بسبب نفس الانطباع الذي رسخ في أذهان الأفارقة وهي أن الغرب لا يهمه سوى الاستحواذ على ثروات بلدانهم دون أي اعتبار لتطلعاتهم ودعم نهضتهم وهو ما تؤكده بشكل دقيق الوقائع على الأرض، ناهيك عن نظرة الاستغلاء التي يمارسها الغرب على القارة ووصمها بالتخلف الحضاري على غرار تصريحات ترمب الشهيرة حول أفريقيا.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الروس والصينيون بديلا جيدا للغرب يمكن أن يساهم في نهضة أفريقيا بل إن الروس قد يكنون أسوا حليف حيث تعتمد إستراتيجية روسيا في التحالفات الدولية على دعم الأنظمة ورؤيتها في الحكم حتى وان كان دكتاتوريا المهم فقط ألا تتضرر مصالحها من تلك الدكتاتورية بل قد تساهم موسكو في ارتكاب فظائع دفاعا ذلك النظام وأمامنا نماذج حية في سوريا والشيشان وليبيا حفتر.
ليس هناك حلا يمكن أن يكون استراتيجيا لنهضة القارة إلا بفرض معادلة ذاتية تعتمد على مبدأ المصالح المشتركة وعدم الاصطفاف مع اجهة دولية تتنافس من اجل إزاحة الأخرى على حساب أمن القارة واستقرارها السياسي ونهضتها المعرفية والتنموية.
لا يوجد تعليقات