في ابريل 2016 ناقشت ورقة علمية حملت عنوان ” الصومال، بين تقسيمها وترهيبها” ، وأشرت في تلك الورقة على توالي ولادة التنظيمات الإرهابية على طول السواحل الأفريقية المُطلة على المحيط الهندي وأتذكر حينها أحد الزملاء الحضور إعترض على ذلك السيناريو وأكد بأن الأمر لن يكون كذلك في بعض الدول أفريقية التي تطل سواحلها على المحيط الهندي مثل : ( موزمبيق، موريشيوس، مدغشقر ، سيشل) مُعللاً ذلك بقلة عدد المسلمين في تلك الدول، وكأن الإسلام هو من يأتي بالإرهاب متناسياً ذلك الزميل حقيقتين يدركها أهل أفريقيا قبل غيرهم، الأولى: أن نسبة المسلمين في أفريقيا غالباً ما يتم التلاعب بها، والإرهاب سلوك دخيل على المجتمع الأفريقي المُسالم بطبعه، فالإرهاب شق طريقه إلى إفريقيا منذ أن وصل من يقرر خط سير السلطة والحُكم في أفريقيا، ويكفي أن يتصفح القارىء قصائد الشاعر الكاريبي بريمان ليتعرف كيف إنتقلت الحداثة والثقافة من أفريقيا إلى أوروبا وليس العكس، وثانياً أن الإسلام هو العقبة الوحيدة التي واجهها المُستعمر حينما أراد سلخ المواطن الإفريقي من قيمه ومبادئه القويمه والمُثير للإعجاب أنه ما زال يواجهها حتى يومنا هذا والأجمل أنه لم ينجح.
توالد التنظيمات الإرهابية في إفريقيا والحديث عن الأيديولوجيات الطائفية لم يعد يأخذ الحيز الأكبر في الصحافة الأفريقية ولا حتى في مجالس النخب الأفريقية التي لم تتلوث بالمال السياسي والتي باتت اليوم مُنشغلة بما يسمى ( Afro Optimistic) وتعني باللغة العربية ” التفاؤل الأفريقي ” فهذه النخب تعمل على كيفية تشكيل مستقبل القارة على منصة عالمية ومحاولة رسم مستقبل القارة حتى وإن كانت تلك النخب بعيدة عن مصنع إتخاذ القرار وذلك من خلال جهود جماعية يساندها في ذلك أفارقة المهجر، أما تلك التنظيمات الإرهابية والأيدلوجيات الطائفية فبات ينظر لها الأفارقة كورقة يتم إستخدامها عندما يختلف اللاعبين في الساحة الأفريقية على المغانم وبالتالي فالرهان على القيادات السياسية الأفريقية القادمة التي يجب أن تُدرك أن هناك فرقاً بين الوصول لسدة الحكم للحكم ليس إلا وبين الوصول للوطن لمُعالجة علاته ودرءاً لإبتزازه.
بعد إستيلاء تنظيم الدولة على ميناء موكيمبوا دا بريا شمال موزمبيق في أغسطس الماضي 2020، بدأتُ وبصمت تقييم جميع المصالح الخليجية ليس فقط في السواحل الأفريقية المطلة على المحيط الهندي بل في عموم القارة الأفريقية ولم يقطع ذلك الصمت إلا مكالمة هاتفية من المملكة العربية السعودية صاحبتها إحدى الباحثات الواعدات التي جمعني بها العمل البحثي في كتابة موسوعة البحر الأحمر وتسألني هل هناك ثمة إستهداف للمصالح الخليجية المتنامية على سواحل المحيط الهندي من جراء ما حدث في موزمبيق؟
يوجد من موزمبيق حتى السواحل المطلة لجنوب إفريقيا مجموعة شركات عالمية نجدها تارة تتنافس للحصول على أكبر حصة للإستثمار وتارة نجدها تتوافق فيما بينها مثل إكسون موبيل الأمريكية وإني الإيطالية، ونجدها تارة تتدخل لعرقلة صفقة وقطع الطريق على بعضها البعض في سبيل الحصول على مكسب من طرف ثالث كشركة توتال الفرنسية مثلاً التي غالباً ما تؤكد أنها ترغب أن تكون شريكة في مجال الطاقة في دول الخليج العربي، فلقد أعلنت واشنطن من خلال شركة الطاقة الأمريكية أناداركو في عام 2019 عن أكبر إستثمار أجنبي في أفريقيا بقيمة 25 مليار دولار في قطاع الغاز الطبيعي المسال في موزمبيق وأكدت واشنطن أن هذا المشروع سيضاعف الناتج المحلي الإجمالي، فكيف إذن وصل إرهاب تنظيم الدولة “داعش” لتلك المناطق التي تحتضن أكبر إستثمار أجنبي في أفريقيا؟
ما يلوح في الأفق أن الأسباب التي حدثث في بانغي عام 2012 وقادت البلاد لحرب أهليه بدأت تُعيد نفسها في ماباتو وإن كانت بصورة مختلفة، فما حدث مؤخراً في موزمبيق من إستيلاء تنظيم الدولة “داعش” على الحقل النفطي له تفسيران: فإما أن هناك خلاف حول النسب بين الشركات العالمية العاملة في موزمبيق وبين الشركة الحكومية الموزمبيقية التي قد تكون طالبت بزيادة نسبتها خاصة إذا علمنا بإن الشركة الحكومية الموزمبيقية لم تحصل في حقل A5A مثلاً إلا على نسبة 15% في مقابل حصول الشركات العالمية على نصيب الأسد وبالتالي كانت النتيجة هي تهديد النظام الحاكم بورقة التنظيمات الإرهابية وإقناعهم بأن إدخال البلاد للمجهول هو النتيجة لإي إعتراض قد يحدث، وإما أن الخلاف واقع بين الشركات العالمية نفسها بسبب إكتشاف حقول نفطية جديدة، ولكن هل المصالح الخليجية ستكون في مرمى الصراع الذي بدأت بوادره تظهر في موزمبيق وما جاورها من السواحل الجنوبية الشرقية للمحيط الهندي، الإجابة نعم هناك جملة سيناريوهات:
السيناريو الأول: مواجهة خليجية في جنوب شرق المحيط الهندي، الصراع الخليجي في منطقة القرن الأفريقي سيمتد إلى طول السواحل الجنوبية الشرقية المُطلة على المحيط الهندي حتى جنوب أفريقيا وما جاورها وستستخدم كل عاصمة خليجية أدواتها المختلفة خاصة أن هناك عواصم خليجية متواجدة في تلك المنطقة منذ عام 1982 وهناك عواصم خليجية نجحت منذ عام 2011 في الإستحواذ على أهم الإستثمارات في تلك المناطق تبين بعد ذلك إنها لمؤسسات سيادية، ناهيك عن نجاح دول خليجية في إزاحة شركة رويال ديتش العالمية للنفط عندما أرادت الأخيرة شراء حصة في منطقة نفطية واعدة قريبة من السواحل الجنوبية للمحيط الهندي والذي فسره المراقبون بإنها سابقة ستمنح تلك الدول قوة سياسية في تلك المنطقة، وفي ظل ذلك التنافس الذي خرج عن مساره وإرتدى ثوب الصراع سيكون أكبر المستفيدين من ذلك هي التنظيمات الإرهابية وهذا ما سيعزز وجودها وتوالدها في تلك المناطق خاصة إذا قامت الأطراف الخليجية بعقد صفقة مع تلك التنظيمات نظير تعطيل أو الإجهاز على مصالح الطرف الأخر والذي بالطبع سيكون جاهزاً للرد بالمثل لتتحول تلك المنطقة إلى بؤرة إستنزاف جديدة للمال السياسي الخليجي.
السيناريو الثاني : إعادة تقسيم أفريقيا بصورة متوافقة مع تحديات القرن الواحد والعشرين، من المُرجح أن ما يحدث اليوم من نشاط التنظيمات الإرهابية في شرق وجنوب شرق أفريقيا وصولاً لشماله وغربه سبقه توافق قوى دوليه تهدف من وراء ذلك كله إلى إعادة تقسيم أفريقيا بصورة مختلفة متوافقة مع تحديات القرن الواحد والعشرين خاصة بعد تنامي النفوذ التركي والروسي في مناطق تعتبرها تلك القوى ملكية خاصة، ومن جانب أخر أرى أن تلك القوى الدولية ستفرض قريباً على جميع الدول المطلة على السواحل الجنوبية الشرقية للمحيط الهندي ( جزر القمر، سيشل، موريشيوس، موزمبيق، مدغشقر) إستقبال بعثات عسكرية تحت ستار محاربة الإرهاب شبيهة بتلك التي فرضت على الغرب الأفريقي مثل: بعثة لبناء القدرات المدنية في النيجر2012، بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الإستقرارفي مالي 2013، وبعثة الإتحاد الأوروبي لبناء القدرات في مالي 2014، وقوة العمل العسكرية الأوروبية المعروفة بإسم ” تاكوبا ” 2020 والتي جاءت معززة وداعمة لعمل البعثات العسكرية التي سبقتها، وسيُفرض على دول الخليج تمويلها تماماً كما مولت دول الخليج مُسبقاً القوة المشتركة لدول الساحل الخمس) النيجر، بوركينافاسو، تشاد، مالي، موريتانيا) والمعروفة بإسم G5 du Sahel، ولو إفترضنا جدلاً أن تلك البعثات العسكرية الدولية وصلت شبيهاتها للسواحل الجنوبية الشرقية للمحيط الهندي بنفس تلك الصورة التي عليها في الغرب الأفريقي فمعنى ذلك أنه ستطالها ذات النظرة وسيطالها ذات الرأي الذي ساهم في تشويه سمعة دول الخليج العربي في عموم القارة والقول بإن دول الخليج العربي إن لم تكن تمثل دول إستعمار جديد فهي تعمل تحت إمرته أو نيابة عنه وبالتالي هي لا تقل خطورة عن المستعمر الحالي الناهب للموارد بدليل أن دول الخليج تحولت لأكبر وجهة لتهريب الذهب والألماس من مناطق الصراع رغم أنها من الموقعين على إتفاقية كيمبرلي الشهيرة والتي تنص على عدم شرعية الموارد الخارجة من مناطق الصراع أو ما يُطلق عليها “ماس الدم” وهذا ما يجعل المصالح الخليجية في مرمى الإستهداف والإبتزاز والذي سينتقل بالطبع إلى إستهداف المواطنين الخليجيين المتواجدين في أفريقيا حتى وإن كانوا خارج اللعبة السياسية.
السيناريو الثالث : المصالح الخليجية في أفريقيا مؤقته ولم تولد وفق أسس ورؤية إستراتيجية بعيدة المدى، الخلافات الخليجية الخليجية أثرت على سير العلاقات الخليجية الأفريقية إلى حد ما ولكن سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها بعد عودة أغلب السفراء من العواصم الأفريقية ( بورت لويس، انجمينا ، داكار) إلى الدوحة ولكن في حال إستمرار الأزمة الخليجية فإن ذلك سيفقد أفريقيا الثقة في الأطراف الخليجية كلها بدون إستثناء بدليل أن أغلب الأطراف الأفريقية باتت اليوم تنظر للمصالح الخليجية المتواجدة في الساحة الأفريقية بأنها مصالح مؤقته غير دائمة لإن أغلبها ولد مناكفة ضد بعضها البعض ولم تولد تلك المصالح وفق قاعدة حقيقية وأسس ورؤية إستراتيجية بعيدة المدى مما سيدفع الدول الأفريقية صاحبة التصويت المؤثر في المؤسسات الدولية إلى التردد في دعم دول الخليج العربي في حالة ترشح الأخيرة لعضوية غير دائمة في مجلس الأمن مثلاً وبالتالي ليس أمام الطرف الأفريقي إلا إستغلال تلك الفرصة والكسب من الطرفين المتناحرين دون أن يستطيع هذا الطرف الخليجي أو ذاك إملاء شروط كان يراها الطرف الأفريقي حتى عهد قريب مُخلة بحقوقه.
السيناريو الرابع: خسارة المسلمون في جنوب شرق المحيط الهندي ، شعوب منطقة السواحل الجنوبية الشرقية من القارة الافريقية ( موزمبيق، سيشل ، مدغشقر ، موريشيوس) يدين جزء منهم بالإسلام حتى لو أخفت السلطات الرسمية نسبة أعداد المسلمون في أراضيها فهذا لن يخفي حقيقة واقع الدين الإسلامي في تلك الدول، وفي ظل توالد التنظيمات الإرهابية في تلك المناطق سيتضاعف القمع والتهميش في حق المسلمون هناك وهذا سيُضعف البنيان الداخلي لتلك المجموعات المُسلمة التي تحاول جاهدة الحفاظ عليه طيلة العقود الماضية، وسيؤخذ المسلمون بجريرة التنظيمات الإرهابية التي ستنتهز فرصة القمع الذي سيتضاعف على المسلمون في تمريرأجندتها لإقناع ذلك المكون المسلم المُسالم في الإنضمام لصفوفه تحت شعار الدفاع عن النفس وحماية الإسلام والمسلمون وبذلك سنكون قد خسرنا مُكون مسلم كان حتى عهد قريب يترقب وصول الوفود الخليجية لإعانته في التعليم والصحة وفرص العمل وتطوير الذات.
السيناريو الخامس : النموذج التنموي الأفريقي المعاصر في خطر، ما يحدث في السواحل الجنوبية الشرقية للمحيط الهندي من توالد التنظيمات الإرهابية قد يطال منابع النيل الأبيض ومنطقة البحيرات العظمى برمتها تمهيداً للقضاء على النموذج التنموي الأفريقي الصاعد (روندا) أو لتحجيمه ولمنع أي تنمية صاعدة في منطقة البحيرات العظمى وما جاورها وسيعيد لتلك المنطقة ذكريات تسعينات القرن الماضي التي لم يشهد لها التاريخ مثيل وما زالت بقاياها ظاهرة في تفكير من عاصرها.
التوصيات
- حل الأزمة الخليجية وعدم العودة لمربع الخلافات التي لا طائل من ورائها ويدفع ثمنها من مستقبل وأمن المواطن الخليجي .
- ربط المصالح الخليجية بخطة التنمية لرابطة الدول المطلة على المحيط الهندي Indian Ocean Rim Association (IORA) ودعم جهود مكافحة القرصنة البحرية في المحيط الهندي.
- العمل على الإهتمام بأمر المسلمين في تلك المناطق حتى لا يقعوا فريسة سهله لتلك التنظيمات الإرهابية، والتوقف عن إستخدامهم كورقة سياسية في قضايا مختلفة .
- التقرب من النخب الأفريقية الحقيقية التي لم تتلوث بالمال السياسي، فيجب أن يُدرك القارىء الخليجي أن واقع النخب الأفريقية الحقيقية أنها تواجه وبشراسه سياسة شراء الذمم وسياسة إغراء المناصب التي تمارسها السلطات عليهم لذلك تجد تلك النخب إما إن جزء منهم في السجون أو إنصرف للعمل الخاص أو في المهجر، وإبعادهم قصراً عن مراكز إتخاذ القرارلا تراه تلك النخب بأهمية فهم يدركون أن أغلب السياسات في بلدانهم تأتي في قوالب مُعلبه من الخارج ولا مجال فيها للنظر لا من الجالس في القصر الرئاسي ولا من مستشاريه وبالتالي ما الذي سيجنونه من إقترابهم من السلطة التي غالباً ما تتخلص من معارضيها السابقين الذين تحولوا إلى مؤيديها الحاليين بعد إستخدامهم وكشفهم أمام الملأ، وبالتالي ترى هذه النخب أن الحل هو العمل في الخارج لذلك ترى أغلبهم يعمل في المنظمات الدولية ومن خلالها نجحوا في إصلاح أوضاع أوطانهم في الداخل وجائزة الحكم الرشيد للزعامة الأفريقية التابعة لمؤسسة مو إبراهيم خير دليل على ذلك .
- إحترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها وعدم الزج بها في الخلافات الخليجية الخليجية والإبتعاد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقات الدبلوماسية.
المقال منشور في جريدة البيان الإماراتية على الرابط التالي :
https://www.albayan.ae/opinions/articles/2020-09-12-1.3957973
المقال منشور في مركز مقديشو للبحوث والدراسات
المقال منشور باللغة الفرنسية على موقع مجلة HORIZON
ملاحظة مهمة
ما جاء في هذه الورقة العلمية مُرتبط بإستشراف مستقبلي كنا قد حذرنا منه في أوراق علمية سابقة تجدونها منشورة في الصحافة الإماراتية، الأفريقية ، الفرنسية من خلال الروابط التالية:
العلاقات الخليجية الموزمبيقية
https://www.albayan.ae/opinions/articles/2019-12-26-1.3736184
الصومال بين تقسيمها وترهيبها
سيناريوهات خليجية في القرن الافريقي
https://horizondakar.com/2020/04/18/scenarios-du-golfe-dans-la-corne-de-lafrique
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
@gulf_afro
@Dr.A_alarimii
لا يوجد تعليقات