في غمرة إنشغالي بالكتابة حول ما جاء في القمة الإفريقية الأخيرة في نيامي 2019 ودور دول مجلس التعاون الخليجي المتوقع خلال السنوات الخمس القادمة، وصلتني رسالة مكتوبة بخط اليد من أحد الزملاء يقول فيها ” أكتب لكِ من الخرطوم الحزينة التي طالما حدثتني عنها حتى أصبحتُ لا أراها إلا من خلالكِ وسأغادرها قريباً ولا أرغب بالعودة إليها إلا بعد أن تستعيد ثوب سعادتها الذي أخبرتيني ذات يوم أنها لن تخلعة أبداً، ولي رأي حول ما جاء في مقالكِ الأخير الذي حمل عنوان السودان بين الإمتثال والتراجع فأرى أن توقعاتكِ المُستقبلية حول الثورة السودانية واهية ولا يمكن أن تتحقق ولا أعلم بأي عقل خطها قلمُك”.إنتهت رسالة الزميل المُفاجئة والتي ختمها بعبارة أكثر غرابة لمن هم مثلي تقول: ( المال فوق الولاءات ولا عزاء لمن لا يسبق) .
توقفت أمام تلك الرسالة كثيراً لأسباب محددة، أولاً : الرسالة مكتوبة بخط اليد وأستغرقت أسبوعاً كاملاً حتى وصلتني بيد رسول وكان يمكن أن تصلني خلال ثواني عبر التطبيقات الألكترونية وأهمها الواتساب خاصة أنها لا تحتوي على كلمات ممكن أن تثير إهتمام الرقابة الأمنية إن وجدت، ثانياً : وصلتني تلك الرسالة في ظرف يحمل عنوان فندق “برج الفاتح” الذي تحول في عام 2011 إلى “كورنثيا” فهل يحتفظ هذا الزميل بظرف الفندق القديم منذ تسعة أعوام وإذا كان نعم فلماذا؟ وهل من المعقول أنه بعد مرور تسعة أعوام على تغيير إسم الفندق ما زال الظرف يحتفظ بهيئتة الجديدة التي خرج منها من المطبعة؟ وأستبعد تماماً أن إدارة الفندق ومنذ عام 2011 لم تقم بتغيير أوراقها وأقلامها بالإسم الجديد “كورنثيا” في غرف النزلاء، ثالثاً: إعتراض الزميل على مقالي ليس إعتراضاَ أكاديمياً يمكن أن تمنحة الصفة العلمية حق الإختلاف أو الإتفاق بمقدار ما هو تحذيف أحجار لشجرة مثمرة قد تطرح يوماً ما ما لا يُراد له أن يؤكل.
وصلت الثورة السودانية قبل أيام إلى مرحلة التوقيع على الإتفاق السياسي الذي لا يتضمن الإعلان الدستوري والمُتابع عن كثب للشأن السوداني حتى قبل سقوط الرئيس البشير بعقود يُدرك أن الإتفاقات السياسية مهما كان حجم الموقعون عليها لا تعصم الشعوب ولا حتى الموقعون عليها من نقضها إذا أرادوا ذلك، ولكن إلى أين يتجة السودان بعد هذا الإتفاق ؟ وما هو الدور المتوقع لرجال الصف الأول والثاني من نظام الإنقاذ الذي ما زال يدير الدولة السودانية بكافة مرافقها رضى بتلك الحقيقة الشعب السوداني المُنهك أم لم يرضى؟
السودان اليوم برأيي واقع بين إتجاهين، الإتجاة الأول يرى أن إستكمال تحقيق نجاح الثورة السودانية يتطلب مساندة دولية وإقليمية قوية ولكن تلك المساندة تتطلب تنازلات حقيقية يدركها المواطن السوداني جيداً، فالسودان دولة مُنهكة إقتصادياً وسياسياً وعلى مدى ثلاثة عقود لذلك يرى هذا الإتجاة أن الشارع السوداني لن يقف حجر عثرة أمام إنفراجة بدأت تلوح في الأفق وبضمان أمريكي، أما الإتجاة الثاني فهو إتجاة واعي تماماً لنتائج التدخلات الإقليمية والدولية في دول الربيع العربي التي سبقتة فبتالي لن يسمح بإنحراف مسار ثورثتة التي قام من أجلها وهذا ما يجب أن يُدركة قادة المجلس العسكري ومن خلفهم قبل كل شيء، فهذا الإتجاة لا يرى فيما يحدث اليوم إنتصاراً لثورة وطنية بمقدار ما هي فرصة لإعادة إنتاج ذات النظام الذي لم يسقط بسقوط رأسة.
يدرك رجال نظام الإنقاذ أن النظام لن يسقط بوجودهم وسيتعاملون مع الأوضاع الحالية وفق ما يضمن إعادة إنتاج الإنقاذ بصورة جديدة، فثمة دور خفي يلعبة حالياً وسيلعبة مُستقبلاً رجال الصف الأول في نظام الإنقاذ الذي ما زال يحكم من وراء الستار، فهناك خمسة رجال أرى شخصياً بأن دورهم سيكون محوري في الوقت القادم وهم: علي عثمان محمد طه، صلاح قوش، بكري حسن صالح، عبد الرحيم محمد حسين، إبراهيم غندور.
ولنبدأ بالسيد إبراهيم غندور وزير الخارجية السوداني السابق، فلا شك أن إبراهيم غندور يحظى بقبول شعبي حتى من صفوف المعارضة السودانية وقبول إقليمي ودولي فهو صاحب كاريزما إفتقر إليها من سبقة ومن خلفة في المهمة، وإقالتة من وزارة الخارجية ولأسباب معروفة هي من ضاعفت رصيدة المهني برأيي كوجة جدير بالدبلوماسية السودانية، وبناء على ذلك أرجح عودتة للخارجية التي لا أظن أنه غادرها بشكل جذري
عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع السوداني سابقاً ووالي ولاية الخرطوم لاحقاً، فالرجل لم يتخلى عن عباءتة العسكرية ودورة في وزارة الدفاع التي كان يرأسها مكنتة من الخوض في إدارة أعقد الملفات التي يمكن أن تواجهها دولة ما (ملف أزمة درافور، كردفان وجبال النوبة ) هذا فضلاً بأنه يحظى بثقة عالية من الكوادر العليا في صفوف المؤتمر الوطني فبتالي توجيهاتة للكوادر العسكرية السودانية التي ما زالت تعمل في مناطق النزاعات جديرة بالإستماع والتنفيذ.
بكري حسن صالح النائب الأول للرئيس السابق عمر البشير، ويحظى بثقة كبيرة في صفوف رجال الإنقاذ من عسكر ومدنيين وله كلمتة في الأجهزة الأمنية والإستخباراتية وقد لا يكون له دور واضح إلا في دوائر محددة ضمن إختصاصة ولكن لا يعني ذلك إنتفاء دورة في المرحلة القادمة.
صلاح قوش، مهندس السياسة الأمنية السودانية، ورئيساً سابقاً للأمن القومي السوداني، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات حتى إستقالتة بعد نجاح الثورة السودانية إبريل 2019، يحظى الرجل بثقة من نوع مختلف في الأوساط الإقليمية والدولية وقد يكون السبب هو قيادتة للتعاون بين الخرطوم وواشنطن وهذا ما دفع المحاور الإقليمية إلى إضفاء ذات الثقة على شخصة، ولكن أرى أن بروز صلاح قوش مرة أخرى على الساحة السياسية السودانية متوقف على القبول الشعبي له والذي لن يتحقق بفرضة كأمر واقع ولكن ممكن أن يتحقق بتوافق شعبي خاصة أن صلاح قوش ليس محسوباً على تنظيم الأخوان المسلمين ولو فرضنا أن هذا التوافق الشعبي لم يتحقق فهذا لا يعني قطعاً أن الرجل سيخرج من دائرة إعادة رسم المعادلة الأمنية والسياسية السودانية بل سيكون أصل فيها فلا يمكن التضحية بخبرة وكفاءة رجلاً كصلاح قوش .
علي عثمان محمد طة، أبرز من أدار السياسة السودانية، ففضلاً عن كونه وزيراً سابقاً للخارجية 1995-1998، والنائب الأول السابق للرئيس البشير بعد إنفصال الجنوب، فلقد أدار الرجل أهم الملفات الأمنية والسياسية من عمر الدولة السودانية، فهو كان ممثل لحكومة الإنقاذ أثناء توقيع إتفاقية نيفاشا 2005، وحتى بعد إقالتة عام 2013 لم ينتفي دورة ككادر له وزنة في معادلات السياسة السودانية وله كلمتة في أروقة السياسة الإقليمية والدولية وأرجح شخصياً أن دورة في إعادة إنتاج نظام الأنقاذ بمسمى جديد هو الأول إن لم يكن العقل المخطط له.
بقيت شخصية أخيرة لا يمكننا تصنيفها أنها من رجال الإنقاذ وإن كانت قبل إنشقاقها محسوبة عليه، شخصية لم أقتنع لحظة أنها كادر مؤسس أو يمكن أن تحظى بقبول شعبي حتى وإن تقلدت ذات يوم أعلى المناصب، طه عثمان أحمد الحسين المدير السابق لمكتب الرئيس البشير، تلك الشخصية التي إنتقلت من الخرطوم للرياض بقرار سياسي سبقتة أحداث درامية لم تكن خافية عن أبسط مواطن سوداني ومن حسن حظي أنني كنت شاهدة عيان للحالة العامة السودانية أثناء إكتشاف أمر طه عثمان مروراً بقرار سجنة ثم ترحيلة المُفاجىء والصادم إلى الرياض بحجة أنه مواطن سعودي ويعمل مُستشاراً للشؤون الإفريقية في وزارة الخارجية السعودية.
بعد نجاح الثورة السودانية تناقلت وسائل الإعلام خبر عودة طه عثمان إلى الخرطوم والبعض الأخر روج إلى دورة المحوري في وضع خطة فض إعتصام القيادة العامة لتثبيت دور المجلس العسكري ومنع تمكين الثوار من الوصول إلى إتفاق لتشكيل حكومة مدنية حقيقية، ولكن لو فرضنا جدلاً أن المحور الخليجي الواقع تحت الإدارة الأمريكية والذي يعمل لصالحة طة عثمان يريد أن يقدم طة عثمان قائداً لحكومة ظل في السودان فما هي النتيجة؟
أعتقد أن ذلك الإفتراض بدأ يُطرح في الأوساط السياسية السودانية وطُرح بلا شك في أروقة المخابرات الداعمة لهذا التوجة الذي لو تحقق فلا أظن أنة سيحقق مبتغاة المناط إلية، فالقوى الدولية تريد كسب مزيد من الأوراق في الشارع السوداني ولا تريد إستفزازة فلو دعمت توجة كهذا في هذا التوقيت فهي بذلك ستخسر حتى فرصة الجلوس مع القوى السياسية السودانية ناهيك عن قوة إرتداد الموجة الشعبية والتي بلا شك ستعصف بالكثير إذا عادت وسيعود الجميع لمربع الصفر الذي يتجنبوة، فبتالي أرجح أن دور طة عثمان الحسين سيقتصر على الإستشارة لصالح دوائر صنع القرار في المحاور الخليجية التي يعمل لحسابها وذلك بحكم خبرتة السابقة في دوائر صنع القرار في السودان وإرتباطة بشخصيات سودانية نافذة، وحتى تلك الشخصيات السودانية النافذة ستكون مكشوفة للقوى الشعبية وبالتالي لن تحظى بقبول ولن يحقق تعاونها أو تجنيدها لعناصر سودانية نفعاً يذكر، وشيئاً فشيئاً سيتقلص دور طه عثمان هذا إذا لم يتم التخلص منه بعد إنتهاء دورة وهو بكل تأكيد يُدرك ذلك، لذلك أرجح أن يكون مُستعداً لتلك اللحظة ففي فقة المخابرات العامة يتم حرق الأوراق القديمة بعد أن تُكشف للعلن مهما طال الإحتفاظ بها.
ما يقلق الشارع السوداني اليوم أمران : الأول، تصاعد أصوات من الداخل السوداني تريد أن تفرض قناعة مفادها أنه لا توجد ثورات وطنية حققت مكاسبها بدون مساندة دولية وإقليمية، ولكني أرى إن كان ذلك صحيحاً فإنة صحتة محكومة بمدى معين ولا يمكن أخذها بأنها قاعدة مُسلم بها فالتاريخ يقول أن نجاح الثورات الوطنية يكمن في تماسكها داخلياً ومتى ما كانت كذلك تستطيع أن تفرض برنامجها وإلا كيف تحقق لبعض الأمم إستقلالها السياسي والإقتصادي الحقيقي إن لم تكن حققت مُسبقاً قوة وسلامة لجبهتها الداخلية، الثاني، الشارع السوداني ما زال ينتظر محاكمة عادلة لمجزرة فض إعتصام القيادة العامة وأرجح أنه سينتظر طويلاً حتى تتحقق خاصة أن المجلس العسكري تبرأ منها وألبسها للواء منتدب من جهاز الأمن والمخابرات السوداني إلى قوات الدعم السريع والمعتقل اليوم في معسكر بمدينة بحري السودانية، وأمام الضغوط الشعبية وكسباً لمزيد من الأوراق سيُقدم المجلس العسكري في الأيام القادمة مجموعة ما على أنها المسؤولة عن المجزرة وسيُعلن حكماً قضائياً عليها لن ينفذ.
أنهيت كتابتي لهذة السطور وأنا أستمع لخبر يقول “أن تجمع القوى المدنية يرى أن الإتفاق السياسي الذي تم توقيعة لم يتضمن مطالب الثورة وهذا الإتفاق يكرس لهيمنة القوى العسكرية على مفاصل السلطة” ، مما يعني تزايد الخلافات في الوقت القادم وستتضاعف قبيل توقيع الإعلان الدستوري المُرتقب وستلعب المحاور التي تتم إدراتها دولياً على كل تلك التجاذبات إن لم يتدخل حكماء السياسة في السودان
مركز العلاقات الخليجية الأفريقية
ورقة علمية منشورة في 21 يوليو 2019
لا يوجد تعليقات