سيناريوهات “خليجية” في القرن الأفريقي

Scroll Down — Scroll Created with Sketch.

في أوج الإحتقان الأثيوبي المصري بسبب سد النهضة من ناحية والتوجس المُشبع بسوء النية بين جيبوتي وأرتيريا من ناحية أخرى والخلاف الكيني الصومالي بسبب النزاع حول الحدود البحرية من ناحية ثالثة كنت أراقب ما يُكتب في الصحافة الرسمية في جميع تلك الدول ولم أكتفي بذلك بل كثفت ساعات مجلسي الثقافي الذي أقيمه في منزلي يوماً في الإسبوع مع أكفأ النخب الأفريقية بعضهم جمعتني به مقاعد الدراسة، وبعضهم جمعني به العمل الميداني في القارة الأفريقية، وبعضهم نجح في تمثيل الدبلوماسية الإفريقية في بعض العواصم الخليجية، وبعضهم من أجبره فضوله على معرفة من هي تلك المرأة الخليجية التي تركت رفاهية مجتمعها وأتجهت تجوب براري إفريقيا حتى أدمنتها أرضنا وعرفها شبابنا وأتقنت جزء من ثقافتنا وإن لم تشارك بها أهي إبنة إفريقيا التي لم تنجبها وهذا ما نأمله؟ أم هي موجهة من جهة ما وهذا ما نخشاه؟ وبعد مرورعقد كامل من تلك التساؤلات أجدُ ذات العيون التي كانت ترمقني بشك مُتسائل وقد غمرها اليوم الإطمئنان والراحة بعد ثبوت صحة ما كانت تأمله


كثيراً ما يناقشني الزملاء الأفارقة خاصة في منطقة القرن الإفريقي حول رؤية دول مجلس التعاون الخليجي للتوترات المتجددة بين أديس أبابا والقاهرة تارة ، وبين أسمرة وجيبوتي تارة أخرى، وبين مقديشو ونيروبي تارة ثالثة، ويتساؤلون لماذا لا نرى في الصحافة الخليجية تقريراً مُفصلاً صادراً من النخب الخليجية حول ما يحدث فعلياً في بلادنا بشكل علمي صحيح ؟ وتكون إجابتي أن عدم إقبال القارئ الخليجي أولاً على معرفة المشهد الميداني الإفريقي عن قرب وعدم قراءة المراجع الأفريقية الأصلية الصادرة من النخب العلمية والفكرية الذين تزخر بهم منطقة القرن الإفريقي لمعرفة أسباب تلك التوترات الخانقة التي تسود منطقة القرن الإفريقي هو العائق الذي وقف دائماً حجر عثرة أمام الإدراك الخليجي لفهم ماهية أفريقيا والقرن الإفريقي وما يحدث فيها وهذا ما أثر على التقييم الخليجي لقراءة الواقع الإفريقي وما يعترية من تصدعات سياسية وإجتماعية وإقتصادية وبالتالي لم تكن هناك رؤية خليجية علمية حقيقية لمنطقة القرن الإفريقي ناهيك عن باقي أفريقيا جنوب الصحراء


القوى الدولية اليوم لا تريد تصعيد الإحتقان والتوتر في منطقة القرن الأفريقي فهي من ناحية لا تريد تصعيداً في الملف الأثيوبي المصري ولن تسمح به أن يخرج إلى ما هو أبعد من تصريحات إعلامية لا تخدم مستقبل نهر النيل ولا قضية سد النهضة بمقدار ما تؤجج لعداوة لا تليق بشعوب دول حوض النيل ، ومن ناحية أخرى لا تريد تطور التوجس المُشبع بسوء النية بين أسمرة وجيبوتي أن يفرض واقعة ويعود بالمنطقة لعام 2008 (أحداث تل البر الرئيسي وجزيرة دوميرا) ، ومن ناحية ثالثة لا ترغب بتطور التوتر الكيني الصومالي أياً كان نوعه بل تريد الإبقاء على ملفات الصومال الجديد الذي تم رسم نموذجه المُراد أن يصل إليه تزامناً مع إعفاء مقديشو من ديونها وعودة السفارة الأمريكية للعمل في الصومال بعد ثلاثة عقود من الإنقطاع، والمحافظة في الوقت ذاته على ما وصلت إليه نيروبي من مكانة داعمة لإستراتيجية القوى الدولية في كافة الملفات (الإرهاب، الإقتصاد، الطاقة )
يتجاذب منطقة القرن الافريقي اليوم محاور دولية تتخللها قوى إقليمية ونجد التنسيق بينهم يصل لمراحل متقدمة في بعض الملفات، وما بين تلك المحاور الرئيسية والقوى الإقليمية الصاعدة نجد دول مجلس التعاون الخليجي هي الحلقة الأضعف في ذلك التجاذب وليس أمامها اليوم إلا مجموعة سيناريوهات محتملة في منطقة القرن الإفريقي

 
السيناريو الأول: الصومال الفيدرالي قوة قادمة، بعد إعادة واشنطن إفتتاح سفارتها في مقديشو بعد عقود من الإغلاق وتبع ذلك إعفاء الصومال من ديونه المالية كل ذلك مؤشرعلى إقتراب حدوث تغييرات سياسية جذرية في الصومال تُمهد بها واشنطن إستراتيجيتها لقرن إفريقي جديد وتهيئة مقديشو للعب دور جديد لم تألفه منطقة القرن الأفريقي من الصومال وهنا إما أن تجد بعض دول الخليج نفسها أمام تصفية حساب مع مقديشو الغاضبة من بعض التوجهات الخليجية وإما أن تجد دول الخليج نفسها أمام ند جديد يمتلك من الموارد الطبيعية والقوة البشرية والموقع الإستراتيجي ما يتفوق به عليها مما يؤهله للعب دور المنافس القوي في منطقة خليج عدن والمحيط الهندي وبحر العرب


السيناريو الثاني: عزل كل دولة خليجية عن الأخرى، من المرجح ان تعمل القوى الدولية على الحيلوله دون عودة الوفاق الخليجي حتى يتسنى لها عزل كل دولة خليجية عن الأخرى وإستخدام ذلك التنافر الخليجي بما يتناسب ومصالحها، خاصة أن هناك ملفات معينة في القرن الإفريقي والسودان لا تريد القوى الدولية أن تظهر أمام الرأي العام بأنها المسؤولة عن إداراتها حتى إذا حدث وإنكشف الأمر فهناك طرف يتحمل المسؤولية وعليه أن يدفع الثمن مما يعرض المصالح الخليجية لمزيد من الإستهداف والتلاشي


السيناريو الثالث: تقدم صومالي – تركي ، من المٌرجح أن يتضاعف التعاون الأمني والعسكري في القرن الأفريقي بين تركيا والصومال وبعض دول الخليج وقد تنضم إليهم مُستقبلاً أثيوبيا وكينيا والسودان في بعض الملفات أو في مرحلة من المراحل ، وفي ظل تباين الرؤى السياسية لكل دولة خليجية والدور المُستقبلي الذي تُريده كل دولة خليجية لنفسها وبمعزل عن الأخرى، سيقود ذلك بطبيعة الحال إلى مزيد من الصراع بين دول الخليج ليس فقط في منطقة القرن الإفريقي بل قد يمتد إلى عموم القارة الأفريقية مما يزيد من إنهيار فكرة الإتحاد الخليجي


السيناريو الرابع: خفة حدة الملف الأثيوبي – المصري، تصاعد وتيرة الخلافات المصرية الأثيوبية حول سد النهضة قد يضاعف الإنقسام بين دول الخليج، وهنا إما أن تجد القاهرة نفسها وحيدة بدون دعم خليجي حقيقي، وإما أن تتخلى بعض دول الخليج الحليفة للقاهرة عن أثيوبيا وتشكل جبهة مع مصر وهذا ما أستبعده، فدول الخليج العربي حتى تلك الحليفة للقاهرة لا ترغب بخسارة أثيوبيا ولكن قد تساهم في تقريب وجهات النظر بين الجانبين المصري والأثيوبي لحل الخلاف بينهما بدون خسارة أحد الطرفين وهذا ما سيحدث.

التوصيات
• العمل على حل الأزمة الخليجية فوراً والبدء وبشكل جماعي بوضع إستراتيجية عشرية يناط فيها لكل دولة خليجية مهمة معينة، ولابد لدول الخليج أن تعيد قراءة إفريقيا من جديد ولكن ما يعرقل ذلك هو الخلافات السياسية بين دول الخليج العربي التي يجب أن تحل فوراً والعمل على التوجة قدماً وعدم العودة لمربع خلافات لا طائل من وراءها ويُدفع ثمنها من مستقبل وأمن المواطن الخليجي.
• التحرك بشكل عملي لإثبات إحترام دول مجلس التعاون الخليجي للسيادة الصومالية والعمل على دعم وحدة أراضيها كدولة عربية عضو في الجامعة العربية والتوقف فوراً عن أي نشاط قد يساهم في زعزعة إستقرارها والبدء بدعم جمهورية الصومال الفيدرالية بمضاعفة الإستثمارات وتطوير البنية التحتية ودعم سوق العمل الصومالي.
• إرساء قيم إقتصادية قوية لتكتل خليجي إفريقي مستقبلي، خاصة أن بعض دول الخليج نجحت في دعم التمويل الإسلامي وإصدار الصكوك الإسلامية في بعض الدول الأفريقية وهذا سيُنعش الإقتصاد الأفريقي من ناحية، ويُحافظ على الأموال الخليجية بعيداً عن أي إبتزاز سياسي إقتصادي مُستقبلي من ناحية أخرى.
• العمل على إبراز وجهة النظر الخليجية لشعوب دول القرن الأفريقي عموماً ولشعب الصومال خصوصاً الذي يرى بأن دول الخليج العربي لم تبذل الجهد “السياسي” المطلوب منذ إنهيار الدولة الصومالية عام 1991 وما تلى ذلك من أحداث ساهمت في تعزيز الإنشقاق بين بعض دول الخليج والصومال وساهمت في إبراز وجه خليجي سلبي عند شريحة شعبية صومالية واسعة وهذا ما يجب إصلاحة قبل أن يتفاقم ويصبح عقبة صلبة في وجة التقارب الخليجي -الصومالي.
• العمل على إنجاح مشروع جسر اليمن- جيبوتي المُزمع تنفيذه والذي سيعزز التبادل التجاري بين دول القرن الأفريقي ودول مجلس التعاون الخليجي.
• العمل على تقريب وجهات النظر بين أديس ابابا والقاهرة منعاً لتصعيد الموقف والوصول لنقطة توافقية تدعم حق إثيوبيا في التنمية وتُطمئن القاهرة بعدم المساس بحقها المائي وتحفظ الحقوق السودانية.
• وضع خطة عملية لمشاركة الكتاب الإفريقي في جميع العواصم الخليجية تشارك به نخب أفريقية علمية من “أفريقيا جنوب الصحراء” لتعزيز التواصل الثقافي الخليجي الإفريقي والذي سيساهم في تقريب وجهات النظر بين الجانبين والتعرف على تلك النخب وإعطاءهم فرصة لتعريفنا بكينونة المجتمعات الأفريقية والوصول بالتالي لرؤية خليجية علمية صائبة لا تحتاج لتحقيقها الإستعانة بخبرات أجنبية يزعجها أي تقارب أفروخليجي لا يمرعبرها 

المقال منشور في مركز مقديشو للدراسات والبحوث بتاريخ 14 ابريل 2020 على الرابط التالي

http://mogadishucenter.com/2020/04/%d8%b3%d9%8a%d9%86%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%88%d9%87%d8%a7%d8%aa-%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a/

المقال منشور في موقع القرن الأفريقي بوست على الرابط التالي

https://hafpost.net/articles-and-analyzes/19625

د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

لا يوجد تعليقات

اترك تعليق

0%
Drag View Close play
Style Color
Style Layout