تربطني بالسودان علاقة من نوع خاص فمنها كانت إنطلاقتي لأقصى العمق الأفريقي شرقاً وغرباً وجنوباً ومنها ولدت مكتسباتي العلمية وخبرتي العملية، وهي الوحيدة التي أجد فيها ملاذاً للهروب من ضغوط الحياة، ومنها أرحل لسبر أغوار المجهول وإليها دائماً أعود.
أجريت في مارس الماضي حواراً صحفياً مع الصحافة السودانية حول الواقع السياسي السوداني في سودان ما بعد الثورة وجاء ذلك الحديث في سياق ترويجي لمؤلفي العلمي الجديد الذي حمل عنوان “السودان وتداخل رؤوس الحراب” الذي أقدمة للمكتبة الإماراتية والخليجية فهوعبارة عن قراءة خليجية متعمقة للداخل السوداني وفهم تركيبته تلك التركيبة الغائبة عن القارىء الخليجي والذي للأسف إستعان بشخصيات وبمراجع علمية لم تكتب بإيدي سودانية و لا تمت للسودان بصلة ولا تريد لكلا الطرفين خيراً ، فالقراءة الخليجية المتعمقة للداخل السوداني التي تضمنت مؤلفي العلمي لا يمكن أن تتحقق إلا بمضاعفة ودعم التقارب الخليجي السوداني على جميع المستويات حتى تتشكل للقارىء الخليجي صورة تعكس الواقع السوداني كما هو مما سيدعم الطرفان الخليجي والسوداني للوصول إلى تعزيز أسس الشراكة الإستراتيجية المرجوة
يطمح السودان اليوم لإسترداد دورة على الصعيدين الداخلي والخارجي كلاعب محوري في القرن الإفريقي كيف لا وهو السهل الممتنع إن أراد والصعب الممتنع إن قرر ذلك، فعلى الصعيد الداخلي أعلنت الحكومة الإنتقالية إعادة إعطاء الجنسية السودانية لمواطني جنوب السودان بحيث يكون للمواطن الجنوبي جنسية مزدوجة، فالسودان يرغب بالتصالح مع نفسه وفتح صفحة جديدة مع نصفه الجنوبي الذي يحمل إرثاً قديماً من الغبن يحتاج لإزالته أجيالاً لم تشهد تلك الفظاعات التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي وما تلاها، أما على الصعيد الخارجي فدول القرن الإفريقي لن تنسى دور الخرطوم المحوري في دعم قائد النهضة الأثيوبية الراحل ميليس زيناوي ودعم الجبهة الشعبية الأرتيرية وما كان لكل ذلك أن ينجح لولا الدعم الأمني والإستخباراتي السوداني وفي الأحداث التي تزامنت مع تلك الحقبة الكثير الذي يفسر عمق الدور الذي لعبته الخرطوم في القرن الإفريقي فهل سيتجدد؟
أما ما يتعلق بملف رفع العقوبات عن السودان فهو ملف مرتبط بالعلاقات السودانية الامريكية الإسرائيلية ، وترى معظم النخب السودانية أن الإعلان عن رفع العقوبات وإزالة إسم السودان من قائمة الإرهاب هو قرار بلا نتائج، ولقد تراكمت الوعود الدولية للسودان قبل توقيع إتفاقية نيفاشا 2005 وبعدها وإنتهي الأمر بالسودان إلى إنفصالها لبلدين وخسارتها لنفط الجنوب الذي كان يُساهم في إنعاش الإقتصاد السوداني الذي تدهور بعد الإنفصال وطال ذاك التدهور العملة السودانية التي كانت حتى أوائل عام 2010 تتفوق على كثير من العملات العربية والخليجية وبالتالي الحديث اليوم عن ذلك الملف سيسلك مسلكين إما أن يكون مرتبط بإبرام صفقة تسليم الرئيس السوداني السابق عمر البشير للجنائية أو أن يكون مرتبط بما ستقدمه الخرطوم من سلوك حقيقي يدعم إنفتاحهاعلى العالم بما فيهم إسرائيل، فالسودان لم يكن يوماً مُهملاً غائباً عن المخيلة الإسرائيلية بل حاضراً تتوق تل أبيب لتعيشه ومُستقبلاً معززاً لإستراتيجيتها الأمنية للقرن الواحد والعشرين .
أمام السودان اليوم الكثير من التحديات ومحاولة الإغتيال الإرهابية التي طالت مؤخراً رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك هي جزء من تلك التحديات أياً كان مُخططها فهي جاءت لإرباك المشهد السياسي السوداني ليس إلا وإيصال رسالة للشعب السوداني أولاً أن هناك من يستطيع خلط الأوراق وإعادة ترتيبها خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن التوجة السوداني الجديد وتقارب الخرطوم مع أطراف إقليمية ودولية سيعزز بلا شك دور الحكومة الحالية وهذا سيكون له اثر إيجابي على العلاقات الخارجية السودانية وهذا ما لا ترغب به بعض الأطراف التي تقف خلف محاولة الإغتيال التي يجب أن يُكشف عن مُخططها قبل الكشف عن مُنفذها ولن يقتنع الشارع السوداني بتقديم المُنفذين للمحاكمة إلا بالكشف عن موجههم وأرجح أنه سيتم التخلص من أولئك المنفذين حتى قبل التحقيقات.
في كتابي الذي حمل عنوان “السودان وتداخل رؤوس الحراب” تناولت العلاقات الخليجية السودانية خاصة لما تتميز به تلك العلاقات المُتجذرة من تاريخ عريق ترك بصمته ظاهرة وما زالت في نهضة دول مجلس التعاون الخليجي التي إستعانت وما زالت بالكفاءات السودانية في شتى المجالات، كما تناولت الوضع السياسي السوداني منذ وصول الإنقاذ للسلطة عام 1989 وما تلاه من أحداث جسام تركت أثارها غائرة في الواقع السياسي السوداني وأستندت في الحديث عن تلك الحقبة على مقابلات مباشرة كنت قد أجريتها مع أهم المفكرين والعلماء الذين تزخر بهم الخرطوم، وختمت الكتاب بأهم التحديات التي تواجة سودان ما بعد الثورة تلك التحديات التي جاءت وستتوالى لإرباك المشهد السياسي السوداني وهذا ما يتوقعه أهل أرض المقرن قبل غيرهم.
أدرك حنق الشعب السوداني على الظروف التي أبعدته عن المشهد السياسي العالمي وحرصه اليوم على إبراز دور السودان المحوري في جواره الإقليمي ولكن هل الظروف السياسية اليوم ستُساهم في عودة السودان كلاعب محوري في القرن الإفريقي كما كان خاصة أن التجاذبات السياسية في القرن الإفريقي تدفع الأمور دفعاً لشتى التوقعات؟ قمنا بالإجابة عن ذلك التساؤل في كتاب “السودان وتداخل رؤوس الحراب” الذي هو عبارة عن ترجمة لواقع عايشتة كوني أحد الذين شهدوا عياناً أهم المنعطفات السياسية التي عصفت بالأمة السودانية وأهمها حرب دارفور مروراً بإنفصال الجنوب إلى الثورة السودانية وما سبقها من دراما دامية أثقلت كاهل الشعب السوداني فخرج جموعاً يرتجي الحياة ويمكنني بالتالي أن أقيم الواقع السياسي السوداني كما أراه وكما أتوقعة مُستقبلاً من وجهة نظر باحثة خليجية إعتزلت مُناقشة العقول الإيديولوجية الموجهة وأمنت بالحقيقة كما هي وكما يراها ويدركها الجميع حتى وإن لم ينطقوا بها.
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
لا يوجد تعليقات